الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب المراد بالتخويف للمؤمنين والأخذ بما هو أحسن وأنواع البشارات للمؤمن: {ذلِكَ} العذاب الشديد {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ} المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتخويف، فإذا سمعوا ما نعى اللّه من حال الكفار في الآخرة الذين رجحوا الباطل على الحق وأهلكوا أنفسهم وأهليهم الذين اتبعوهم على ما هم عليه اشتدّ وجلهم وأكثروا من إخلاصهم لربهم وبالغوا في توحيده وداوموا على طاعته وأكثروا من تمجيده، ولهذا فإنه تعالى قد شرفهم بإضافتهم لذاته المقدسة فناداهم حرصا عليهم {يا عِبادِ فَاتَّقُونِ 16} واجعلوا خشيتي نصب أعينكم ولا تتعرضوا إلى سخطي فقد حذرهم نفسه بعد أن خوفهم ناره التي وعدها لعصاته، وقال بعض المفسرين إن التخويف خاص بالكافرين طلبا للإيمان به، ولكن ما جرينا عليه أولى لئلا يختلف المراد من الجملة الثانية عن الأولى إذ لا شك أن المراد بالثانية المصدرية {يا عِبادِ} المؤمنين خاصة كالآية الأولى ونظيرها الآية 41 من سورة الأعراف في ج 1، وقال بعض المفسرين: المراد بالآية المؤمنون والكافرون، وهو وجيه لولا إضافة التشريف والاختصاص لجنابه المنيع، وهناك قول بأن الإضافة لا تختصّ بالمؤمنين فقط وإن كان فيها ما فيها من التشريف الذي يختص به المؤمنون غالبا لأن الكل عباده وقد استدل صاحب هذا القول بقوله تعالى: {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية 5 من سورة الإسراء في ج 1، وهم ليسوا بمؤمنين وقد بينا المراد بها فراجعها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها} تباعدوا عن عبادتها لأن أن وما بعدها في تأويل المصدر والطاغوت مبالغة الطغيان راجع الآية 74 من الأنعام المارة، فتجافوا عنها {وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ} رجعوا بكليتهم إليه وتركوا تقليد آبائهم بعبادتها عن رغبة وإخلاص فهؤلاء {لَهُمُ الْبُشْرى} من قبل رسلهم بالجنة عن إيمانهم ومن قبل المؤمنين بالثناء عليهم بالأعمال الصالحة في الدنيا وتبشرهم الملائكة بثوابها عند موتهم فتقرّ أعينهم وفي قبورهم أيضا تبشرهم بالأمن من عذابها وفي الموقف عند بعثهم تتلقاهم بالبشارة بالخلاص من هوله وفزعه وبعد الحساب تبشرهم بالفوز والنجاة وعند الصراط تبشرهم بالسلامة وعند دخول الجنة تبشرهم بالدرجات العالية، اللهم اجعلنا منهم.ثم خاطب حبيبه بقوله يا سيد الرسل {فَبَشِّرْ عِبادِ} ثم خصّهم بقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} مطلق عام في كل قول ولا وجه لتخصيصه بالقرآن العظيم كما ذكره بعض المفسرين بلا دليل يستند إليه {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} مدحهم اللّه جلّ مدحه لتمييزهم بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم ما هو واجب فعله وما هو مندوب اختاروا الواجب، وإذا اعترضهم مكروه ومباح اختاروا المباح، وكذلك يختارون ما هو أكثر ثوابا، فيتركون الانتقام لأنفسهم ممن ظلمهم مع القدرة عليه ويركنون للعفو عمن تعدى عليهم مطلقا، ويختارون العفو على القصاص، ويميلون إلى التصدق بالفضل عن الصدقة المفروضة، وهكذا يميلون إلى الأحسن عند اللّه ولو فيه هضم حقهم.وليعلم أن ما أمر اللّه به ورسله كله حسن وقد يكون فيه أحسن بحسب التفاضل بالعمل به من حيث كثرة الثواب وإذلال النفس كما في العفو عن القصاص والتصدق بالفضل وتكرار الحج والإكثار من صلاة النّفل وذكر اللّه والأخذ بالعزيمة وترك الرخص وما أشبه ذلك راجع الآية 145 من سورة الأعراف في ج 1 تجد ما يتعلق في هذا، وما هو موافق لشرعنا من الشرائع القديمة، وما هو مخالف له، وله صلة في الآية 42 من سورة الشورى الآتية وفي الآية 55 من هذه السورة أيضا.هذا، وما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما من أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد حينما جاءوا على أبي بكر رضي اللّه عنهم جميعا وأخبرهم بإيمانه وآمنوا كلهم لا يخصصها فيهم بل هي عامة في كل محتسب تائب نائب إلى ربه.واعلم أن هؤلاء السبعة والسادة عمر وعلي وعامر بن الجراح هم العشرة المبشرون بالجنة الفائزون بخير الدنيا والآخرة، وقد سألت اللّه أن يحشرني مع سعد بن أبي وقاص عند تفسير الآية 14 من سورة لقمان المارة والآن أوكد رجائي من ربي بذلك {أُولئِكَ} الموصوفون هم {الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ} إلى طريقه المستقيم فوحدوه وعبدوه ومجدوه كما ينبغي لذاته المقدسة {وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ 18} القلوب الواعية المنتفعون بعقولهم، قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ} بنص قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية 120 من سورة هود المارة وقوله في الحديث القدسي: «هؤلاء إلى النار ولا أبالي» ممن اختاروا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى فاستحقوه، أيقدر أحد أن ينجيهم منه كلا {أَفَأَنْتَ} يا حبيبي تقدر {تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ 19} كلا لا تستطيع ذلك البتة لدخولهم في حكمه الأزلي ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، قال ابن عباس يريد به أبا لهب ولكن الآية عامة كما ترى يدخل فيها كل من حقت عليه كلمة العذاب من جميع الكفار لأنها مسوقة في أضداد الموصوفين بالآية المتقدمة التي حكمها عام أيضا، قال تعالى: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} هذا استدراك بين ما ليشبه النقيضين والضدّين وهم المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالمتقين هنا الموصوفون بتلك الخصال العالية والأخلاق السامية {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ} جمع غرفة وهي العلّية {مَبْنِيَّةٌ} بعضها فوق بعض {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} لتمام الزينة وكمال النظارة لا لحاجة الشرب لأن أهل الجنة لا يكلفون السقيا منها فإذا أرادوا الشرب ناولهم الخدم ما يشتهون من أنواع الأشربة، وهذا الذي ذكر من الإكرام للمتقين هو {وَعْدَ اللَّهِ} لهم بذلك على لسان رسلهم وعدا مؤكدا {لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ 20} الذي وعده عباده وحاشاه من ذلك وهو الآمر عباده بإنجازه.روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من الغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا باللّه وصدقوا المرسلين.قال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} بحسب ما نرى راجع الآية 44 من سورة هود المارة {فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} أنهارا وعيونا وجداول وبركانا تخرج من عروق الجبال والأرض كعروق الجسد في الحيوان التي تجري فيها الدماء {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} بالماء النازل على وجه الأرض أو بالمستقر بالبرك والعيون والجاري في الجداول والأنهار إذا سقى به الأرض بالدلاء والنواعير والآلات الحديدية والسيح وغيره {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر وما بين ذلك من الألوان، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أخر لأن أصل الألوان أربعة: أبيض وأسود وأحمر وأخضر، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضر وهكذا {ثُمَّ يَهِيجُ} يثور والمراد بالهيجان هنا واللّه أعلم أن يجف وييبس وهذا من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا تم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته وانه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها {فَتَراهُ مُصْفَرًّا} إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع اللّه فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شيء {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطامًا} هشيما مفتتا بعد ما كان يهتزّ بالأرض الرابية به المزدهرة بنوّاره {إِنَّ فِي ذلِكَ} الإنزال والإدخال والإخراج والإنبات والألوان والجفاف والتفتيت {لَذِكْرى} عظيمة وعبرة كبيرة وعظة جسيمة {لِأُولِي الْأَلْبابِ 21} المنتفعين بعقولهم المستدلين بها على كمال قدرة الإله العظيم وفي إعادة هذا الزرع بعد يبسه وفتاته دليل على البعث بعد الموت، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} فاهتدى به {فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وبصيرة ويقين من أمره وهذا ليس كمن طبع اللّه على قلبه فقسى وضل والعياذ باللّه فتاه في ظلمات الجهل {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} والقسوة جمود وصلابة في القلب ومما يزيدها كثافة الغفلة عن ذكر اللّه تعالى ومما يصقلها وينورها دوام ذكر اللّه، وإذا كانت النفس خبيثة الجوهر لا يزيدها سماع ذكر اللّه إلا كدورة لتراكم الرّين عليها وتلبد الصدأ، وإذا كانت طيبة الجوهر فذكر اللّه يصقلها ويرققها ويلينها لطهارتها ونظافتها وذلك كالشمس فإن حرارتها تعقد الماء ملحا وتلين الشمع الجامد وقد تذيبه بالنظر لجوهر كل وقابليته، هكذا ذكر اللّه وتلاوة كتابه إذا سمعها الكافر إزداد قلبه قساوة وجحودا وإذا سمعها المؤمن ازداد قلبه لينا ورقة وفناء في اللّه بحسب جوهر كل وقابليته، يؤيد هذا قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} الآية 114 فما بعدها من سورة التوبة في ج 3 فراجعها {أُولئِكَ} قساة القلوب {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 22} لا خفاء عليه، إذ حقت عليهم كلمة العذاب، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الفريقين فيها، وما جاء أنها نزلت في أبي بكر الصديق وأبيّ بن خلف الزنديق أوفي حضرة الرسول الكامل وأبي جهل العاطل أو في علي وحمزة وأبي لهب وولده لا يقيدها عن إطلاقها ولا يخصصها عن عمومها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيدخل فيها من شرح اللّه قلبه للإسلام من المشار إليهم وغيرهم وقساة القلوب المذكورون وأضرابهم دخولا أوليا وتشمل كل من على شاكلة الفريقين المرضي عنهم وعليهم والمغضوب عليهم من ساعة نزولها إلى قيام الساعة، وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية 125 من سورة الأنعام المارة ففيها ما يشفي الغليل ويكفي النبيل، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} هو القرآن لأنه فاق ما تقدمه من الكتب والصحف كلها فضلا عن الأحاديث النبوية من جهة اللفظ، لأنه أفصح وأجزل وأبلغ في كل كلام، ومن جهة المعنى لأنه منزه عن التناقض والاختلاف، ومن جهة المضمون لاشتماله على كل ما أنزل اللّه عن الأنبياء السالفين، ومن جهة الإعجاز لأن اللّه تعالى تحدى بسورة منه الإنس والجن ومن جهة الأخبار بالغيب لأنه أخبر عما وقع قبل نزوله وأشار لما يقع بعد، ولفظ الحديث في الآية كناية عن أنه كلام محدّث به لا بمعنى أنه مقابل للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام اللفظي لا لكلام اللّه الأزلي الخالي عن الصوت والحرف، لأن كلام اللّه قديم كذاته.والكلام في هذا يجر إلى الكلام بخلق القرآن وعدمه وقد عقدت له مطلبا خاصا في المقدمة فراجعه.وقد يطلق لفظ الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة فقد جاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في سبب نزول هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا يا رسول اللّه حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت.ثم وصف قوله أحسن الحديث لكونه {كِتابًا مُتَشابِهًا} في وعظه وحكمته وإعجازه وآياته ليصدق بعضه بعضا وكونه {مَثانِيَ} يثنى بالتلاوة ويكرر فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والأمثال والأحكام {تَقْشَعِرُّ} ترجف وتضطرب وتتحرك {مِنْهُ} من سماعه والنظر إليه {جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} عند سماع آيات العذاب والوعيد والتهديد، والاقشعرار هو تقبض الجلد تقبضا شديدا عند عروض خوف شديد ودهوم أمر هائل بغتة فيقال اقشعر جلده وقف شعره وقلوبهم أيضا تقشعر بدليل قوله {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} عند سماع آيات الرحمة..مطلب في الصعق الذي يحصل لبعض الناس عند تلاوة القرآن وسماع الذكر: روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا اقشعر جلد المؤمن وفي رواية العبد من خشية اللّه تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.وروي عن عبد اللّه ابن عروة بن الزبير قال لجدته أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهم كيف كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم اللّه عز وجل تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قال فقلت لها إن أناسا اليوم إذا قرىء عليهم القرآن خرّ أحدهم مغشيا عليه، قالت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم أي أنها استنكرت ما سمعته.وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال ما بال هذا؟ قالوا إنه قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر اللّه فسقط، قال ابن عمر إنا لنخشى اللّه وما نسقط، يريد انتقادهم.وقال ما كان هذا صنيع أصحاب محمد قال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن من أوله إلى آخره أي بحضوره على تلك الصفة فإن رمى بنفسه فهو صادق.وقال عبد اللّه بن الزبير: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون اللّه تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية اللّه تعالى فقالت لا تقعد معهم.ثم قالت رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر.وقال قتادة في هذه الآية: إن اللّه نعت أولياءه بالقشعريرة والبكاء واطمئنان القلب إلى ذكر اللّه ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا من أهل البدع، وإنما هو من الشيطان.وقال ابن جبير الصعقة من الشيطان.واعلم أن هذه الأخبار وأمثالها تنعى على السادة الصوفية صعقهم وتواجدهم وضرب رءوسهم بالأرض وأيديهم بعضها ببعض عند سماع القرآن وبأثناء الذكر والقصائد الإلهية والمحمدية وما هو منها في ذكر بعض الأكابر من العارفين، وعذرهم في ذلك حسبما تقوله مشايخهم لضعف القلب عن تحمل الوارد من معاني الآيات والأذكار وأوصاف الكاملين وما وقع منهم أو عليهم، فإن من يقع منه ذلك ليس في الكمال والمناقب كأصحاب رسول اللّه والتابعين في الصدر الأول لضعف قوة تحملهم، وهو دليل نقصهم عن مراتب الكمال، لأن السالك لطريقهم إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك، ويقولون ليس في هذه الآية وشبهها أكثر من اثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي اعترائهم حالة أخرى، بل في الآيات إشعار بأن المذكور فيها حال الراسخين الكاملين لقوله تعالى: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية.وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك ومن حمل الأمر على غير الكاملين أجاز وقوعه من غيرهم ومتى ما كان الأمر ضروريا فلا اعتراض على من يتصف به وإنا نرى وقوع هذا كله من بعض المريدين لا منهم كلهم ولم نر هكذا أحوالا من مشايخهم بما يدل على أن الوصول لدرجة الكمال تحول دون ذلك أما ما يقع من بعض المتصوفة رياء وسمعة باختياره وقصده فذلك هو الذي تعوذت منه أسماء رضي اللّه عنها وقال فيهم قتادة وابن جبير وغيره ما قالوه آنفا، وقدمنا في الآية 43 من سورة المزمل ج 1 ما يتعلق بها فراجعه، وله صلة في الآية 31 من سورة الرعد في ج 3 وفي مراجعة هذا وذاك تعلم أن الصعق له أصل صحيح في الشرع فسلم له وإياك أن تعترض على هؤلاء السادة فإن لحومهم مسمومة واللّه تعالى ينتصر لهم لأنهم أولياؤه، وقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» وإن اللّه جلت عظمته لم يطلب محاربة أحد من عباده عدا صنفين هؤلاء وأكلة الربى إذ يقول جل قوله {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية 280 من سورة البقرة في ج 3.
|